ابراهيم عبد المجيد
-----
أكثر من عام الآن في مصر، وظاهرة هدم المقابر تتسع لإنشاء طرق وكباري. تمتلئ صفحات السوشيال ميديا بالاحتجاج. يتوقف الهدم ثم يعود، لمقابر الناس العاديين، والمشاهير من القادة والمفكرين عبر التاريخ. لم يعد للحديث عن حُرمة الموتى فائدة.
انفجر الحديث بقوة هذه المرة بعد أن بدأ هدم «قبة نام شاذ قادين» والدة الأمير محمد عبد الحليم باشا إبن محمد علي باشا، التي أُنشئت في القرن التاسع عشر. عبد الحليم باشا كان ضمن من أرسلهم محمد علي باشا عام 1844 إلى فرنسا للدراسة في المدرسة الحربية، ومعه رفقة ممن صار لهم تاريخ، مثل محمد صادق باشا، الذي أصبح في ما بعد لواء أركان حرب، ويقال إنه أول من استخدم الكاميرا في تصوير مكة والمدينة والحرمين الشريفين عام 1861.
صار الحديث عن القبة، مثل الحديث عن غيرها من المقابر والأحواش، بما فيها من أعمال فنية في الخط والنقوش الزخرفية النادرة، يجعل منها ومن غيرها طرازا فنيا ومعماريا متميزا، يؤكد الطراز الإسلامي في عمارة الجبانات أو المقابر، ويؤكد المهارات الحرفية للخطاطين والنحاتين والنقاشين ومن طعَّموا المقابر بالذهب، وكيف صارت مادة لدراسة الفنون في مصر، ورحلة لطلاب الكليات الفنية للتعرف على الماضي في فنونه، بل وللعالم كله.
لن أعيد ما كتبته من قبل كثيرا عن أن المقابر في بلادنا، هي طريقة للبحث عن الخلود منذ بناء الإهرامات، التي ترتفع مثلثة النهاية إلى السماء، حيث عرش الله، وكيف لم تتعرض إلى انتهاكات إلا في زمن سعيد باشا بن محمد علي، الذي ضرب مقابر الخلفاء بالمدافع، باعتباره الخالد الوحيد، لكنه لم يستمر وتوقف بسرعة.
اشتعل الحديث عن كل ما يحدث من هدم، ثم توقف الهدم مؤقتا كما قيل بعد الاحتجاجات الكثيرة، لدراسة ما المهم بين المقابر، وما غير المهم. ندرك في كل مرة يشتعل فيها الحديث أن القبة والمئذنة التي في الصورة ليست الوحيدة، فهناك قبة ومسجد محمود باشا الفلكي، أحد أشهر علماء الفلك ورائد علم الفلك في مصر، الذي على اسمه شارع الفلكي الشهير الذي يربط بين ميدان التحرير وميدان عابدين. عمر هذه الآثار الإسلامية يفوق المئة وأربعين سنة، وإلى جوارها أيضا حوش أسرة ذو الفقار في مقابر الإمام الشافعي، الذي يعد مثل غيره نموذجا في الإبداع الفني، وكنزا فنيا لا يُعوض وشاهدا على عصره.
مَن يفعلون ذلك الهدم طبعا، لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بهذه الفنون، تحركهم مهنة المقاولات في البناء، بلا أي معنى أو فهم للعمارة بين الأحياء أو الأموات. تساءلت يوما هل حقا للمسألة علاقة بالكباري والمكاسب المالية للمقاولين، التي يمكن اختيار طرق أخرى لهما إذا كانت ضرورية، أم هي تجليات لانتشار الفكر الوهابي الذي تم منذ منتصف السبعينيات برعاية الدولة نفسها، حتى جاء زمن تجلياته البشعة على الموتى أيضا. في الأيام الأخيرة لم أعد أتحمل. حملني إحساسي وفكري إلى منطقة قد لا تخطر على بال أحد، هي رحلتي مع الثقافة والأدب والفنون. مع أولئك الذين سواء رأيتهم في حياتي، أو عاصرتهم ولم أرهم مثل طه حسين، أو لم أرهم ولا عاصرتهم مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي ومحمود باشا الفلكي وغيرهم. صرت أنظر إلى نفسي فأراني نتاجا، لحمي ودمي وروحي، لقراءاتي لهم. هكذا صار الهجوم على مقابرهم يقتطع من لحمي، حتى صرت أتخيل نفسي كائنا لم يقرأ في حياته قط، ولم يكن هؤلاء سببا في نموه العقلي وتطوره الفكري، وما أنتجه من روايات أو مقالات أو دراسات.
صرت أشعر بأني اتضاءل وأنكمش حتى أكاد أختفي، ولا توقف دموعي هذا الشعور لأني مدرك تماما، أنه مهما كان لي فكري الخاص، فهو إنتاج جهودهم وأفكارهم. أولئك الذين أمضوا حياتهم من أجل بناء وطن مستقل، يتقدم رغم الاحتلال ورغم الديكتاتوريات المتعاقبة. فعندما أعرف أن مقبرة محمود سامي البارودي مهددة بالهدم، يعود إلى تاريخ النضال الذي ساهم فيه البارودي أيام الخديوي إسماعيل وبعده توفيق والثورة العرابية، وكيف صار رئيس وزراء، ورفضه لنفي عرابي واستقالته، وحدوث الاحتلال البريطاني، وكيف حُكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى النفي مع غيره إلى جزيرة سرنديب في سريلانكا. غير ذلك دوره في تجديد الشعر العربي، الذي كانت القفزة الثانية فيه مع أحمد شوقي الذي كتب المسرحيات الشعرية، والقفزة التالية مع مدرسة الديوان للعقاد والمازني وعبد الرحمن شكري، التي كانت البداية لما حدث في الشعر من نقلة في ما بعد إلى الشعر الحر ثم قصيدة النثر. قرأت عن كل هذه المعارك وعاصرت الأخيرة منها مع صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ثم شعراء السبعينيات ومن جاء بعدهم. مات من مات مثل حلمي سالم وعاش من عاش مثل حسن طلب وعبد المنعم رمضان وأمجد ريان وجمال القصاص وأحمد طه ومحمد سليمان وغيرهم من أصدقاء الأمل الجميل.
هذه الرحلة في القراءة والحياة لم تكن مجرد معرفة، لكنها صارت بلا مبالغة، نسيجا من لحمي ودمي. الأمر نفسه مع طه حسين ومعاركه من أجل استقلال وحرية الفكر منذ كتابه في الشعر الجاهلي، ومنهجه الديكارتي في الشك حتى يصل إلى حقيقة ما يراه السلف مقدسا، بينما هو مثل غيره ابن زمانه ومكانه، وكثير منه كتب بعد العصر الذي يُنسب إليه، ويمكن أن يتغير. الحديث طويل عن معارك طه حسين الفكرية. أتذكر أنه كتب روايات وترجم مسرحيات يونانية، تعلمت منها أن الكاتب يمكن أن يمارس كتابته في كل مجال، بحثا عن ترسيخ كل أشكال النهضة، حتى لو لم يعجب الإنتاج في مجال ما، نقاده في ما بعد حين يتطور النقد والحياة الأدبية. أتوقف عند دوره السياسي في التعليم الذي كان شعاره التعليم كالماء والهواء، وما فعله حين تولى رئاسة جامعة القاهرة وكيف فتح الباب للفتيات، ودوره في السنوات القليلة التي صار فيها وزيرا للمعارف، أو التعليم في ما بعد، في حكومة الوفد الأخيرة قبل انقلاب يوليو/تموز 1952. كنت دائما مدركا أني نتاج هذه الأفكار والأعمال، حتى جاء اليوم الذي رأيت فيه نبش المقابر، فصرت أشعر به نبشا في لحمي ودمي.
الأمر نفسه يمكن قوله عن محمود باشا الفلكي مؤسس علم الفلك الحديث في مصر، وعلي مبارك الذي نراه في المباني الخديوية الباقية وتارخ التعليم أيضا. هكذا يمكن أن أمشي مع كل هذه الأسماء العظيمة، حتى محمد محمود الذي كان وفديا مع سعد زغلول وانشق عليه، وقام بأعمال مضادة مثل وقف العمل بالدستور في وزارته بعد ذلك، فلا أنسى أنه أول من أطلق فكرة تأليف وفد في سبتمبر/أيلول عام 1918 للذهاب إلى مؤتمر فرساي في باريس لحق تقرير المصير، وكيف تم القبض عليه مع سعد زغلول وحمد الباسل وإسماعيل صدقي ونفيهم إلى مالطة، فانفجرت ثورة 1919 في مارس/آذار، وتمت عودتهم وسافروا إلى باريس. رغم مواقف محمد محمود التالية بعد ثورة 1919 ارتفعت حولي في الفضاء وأنا أقرا عن هدم مقبرته، أحداث شارع محمد محمود بعد ثورة يناير/كانون الثاني وضحاياها التي شكلت صفحات في بعض رواياتي، ولم أكن بعيدا عنها قط.
وهكذا صارت فكرة الاعتداء على مقبرته هجوما على ما رأيت، وعلى المشاعر التي تستيقظ مع الذكريات، وعلى التاريخ الذي يتجسد أمامي، وعلى الليالي التي أنفقتها في شبابي في القراءة وأصبحت بعدها كاتبا. صرت أرى جسدي يتقطع أمامي على الأرض، ودمي ينزف حاملا كل ما قرأت، والوطن يبتعد إلى العدم، أو روحي هي التي تجد في العدم ملاذها من فرط الحزن، ولا تهدئها الدموع.
كاتب مصري
0 تعليقات